28/11/2023

أنا الفرح

Blog image

أنا الفرح
مجموعة من الأعمال المسرحية " للأطفال" مقدمة إلى فئات عمرية طفولية متعددة، وأبرزها فئة اليافعين "الناشئة" ..تنتمي بمعظمها الى اللغة الشعرية وشكل الأوباريت الغنائي، إذ زاوجت بين الحوار والصورة السينوغرافية والاستعراض الغنائي، معتمدة على اللغة العربية الفصحى المبسطة بالدرجة الأولى، وطرحت عدد من القضايا الاجتماعية والتربوية والتعليمية العامة مستخدمة لغة وأدوات عالم الطفل الجديدة في معظم الأحيان ألا وهو الخيال العلمي المستمد من واقعنا والمحمل بالرموز الإنسانية الأرضية، والمضامين التي تهم الطفل، وتمس حياته بمختلف طبقاته الاجتماعية، وتميزت بخطاب إنساني كوني عام، قد تجده يمسّ الأطفال في هذا العالم الواسع لا سيما وقد أصبحت الكرة الأرضية برمتها على مرمى من سمعه وبصره بفضل وسائل التواصل والثورة التقنية التي لا تتوقف عند حد.
امتازت الأعمال بالحكائية الجاذبة الى جانب الاستعراض الغنائي الذي هو جزء من بنية العمل الدرامي وليس طارىء عليه فإلى جانب القيمة المعرفية سعت هذه الأعمال إلى تحقيق عنصر الإدهاش بوضع الطفل في عوالم غرائبية وذلك لتحقيق المتعة بوصفها اشتراط أساسي من اشتراطات العمل الفني الأدبي.
ومما جاء في مقدمتها:
راودتني دمعة فرح عندما رأيت بأم عيني تلك الشخصيات التي تراكضت في مخيلتي ذات كتابة، وهي تتسلل إلى خشبة المسرح وقد دبّت الحياة في أوصالها، وانطلقت تعدو حرّة طليقة.
عندها فطنت أن بنات الأفكار إناث قادرات على الإنجاب وبث الحياة في عروق الفكرة وعندها أيضا، أدركت لماذا سميت ما تنجبه الأفكار بناتٍ وليس بنين، كدلالة للخصب والقدرة على إنجاب الحياة.
استيقظت على الدهشة عندما قفزت من سرير الطفولة مبكرة ورحت أعدو بكل جوارحي نحو سحر الكتابة الذي استدرجني نحو عالمه، وحول ألعابي إلى حروف وكلمات وجمل رشيقة تتقافز أمامي فرحة.
بداية كان الحرف، ذلك الكائن المغري الذي استدرج الإنسان إلى كينونته منذ التقيا في جادة المعارف وطافا معا ليؤلفا سوية شكل الحياة ويرسما عبقرية المكان الذي ننتمي إليه، استدرجني من بين أحضان طفولتي وهو يقدم لي على طبق أبيض ألوانه التي غمرت عيني، فاستفقت على زقزقة عصافيره الحالمة أرنو إليه مذهولة، أمدّ يدي الغضّة نحوه فأشعر بالحرارة تدبّ في أوصالي، وكلما أمسكت بجذعه تتملكني رعشة اكتوائي بجمر فصاحته..
منذ تلك اللحظة وأنا أسيرة جمره الحارق، لا هو يغادرني ليدعني أغفو على وسائد بيضاء، ولا أنا أغادره فأريحه من هذياناتي المتلاحقة، حتى صار كلانا يكمل الآخر.. وبتنا توأمين نتشابه في كل شيء.

أشبهه حينما أهزّ شجرته لتتساقط رطبه الندية على الورق، فأهتز معه وكأني شجرته، ويشبهني حينما يتدفق في مخيلتي كمارد عنيد، نتدفق معا انفعالا لنكون شكلا آخر للحياة التي نبتغيها..
قبل الآن كنت أصغي متأملة لقول المبدعين أنّ الكتابة واحدة من أصعب المهن فأردد: هل هي حقا من أصعب المهن؟
ولما ألفتها وجدت نفسي محاطة بأسلاك شائكة وألغام شبيهة بتلك التي يجتازها الأبطال، فكان لزاما عليّ أن أسير حافية فوق تلك الأسلاك الشائكة لأترك بعضا من دمي فوق نتوءاتها كشاهدة على عنادي.
كلما أتوغّل في معاني الحروف وتشكيلاتها أكتشف أنّي محاصرة بين بحرين، أحدهما خلفي والآخر أمامي، وهذا الزورق الذي يتلاطمه الموج مهمتي، وعليّ إيصاله إلى حيث يجب أن يكون.
الكتابة صارت مهنتي التي دعتني إلى تأمل كل شيء أصادفه بعين أكبر من عين الهلال ، حتى صرت أرى الأشياء بوضوح تام.
القصة ومن قبلها الشعر دعياني إلى ثناياهما لأقف على عتبتيهما أتطلع إلى زرقة الكتابة بقلب مفتوح وبيد بيضاء. 
في الابتدائية كنت أكتب خربشات مليئة بمعان أكبر من حجم طفولتي، وكنت فرحة بهذا الهوس الذي أملأ به دفاتري، ثم أخذني المسرح إلى عالمه الساحر كونه الفن الوحيد القادر على القبض على ما يتدفق في رأسي من أشكال متعددة للبوح، فهو القصة وهو الشعر وهو أكثر الفنون تحقيقاً لفعل الحرية.. 
الحرية ذلك السؤال الذي لا زال يطارد أحلامي فأطارده بحروفي، وما إنْ أمسك به جوف جملة حتى ينفلت ليبقى حلما عصيا، وسؤالا جدليا لأسباب الوجود.
كانت أول تجربة غضّة لي على مسرح المدرسة وأنا في الابتدائية حينما كنت أنسج الحكايات المسرحية لنقوم بتمثيلها وزميلاتي على خشبة المسرح المدرسي «أقصد المنصة الخشبية أو ربما الإسمنتية، في مقدمة الطابور الصباحي متعددة المآرب «في مدرسة وكالة الغوث الدولية».
كنت أشعر بنشوة اللعب وأنا أركض بصحبة أفكاري فنبذل عصارة قلبينا لنخرج بوجبة سمعية بصرية تسرّ الناظرين.
كبر المسرح في رأسي وكثيرا ما أخذني من أهداب القصة القصيرة التي كثيرا ما كانت هي الأخرى تقترب من المسرح في شكلها الفني الخائن لاشتراطات السرد التقليدي.
تجسدت أول تجربة ناضجة لي في مسرح الطفل عام 2000 عندما قدمت مسرحية كوكب الأحلام على المسرح الملكي، في مهرجان الطفل الذي تقيمه وزارة الثقافة كفعالية عربية ذات احتدام وتنافس وإبداع.
منذ تلك التجربة التي ما زلت أعتز بها وأنا عالقة بخشبة المسرح ألهو فيها مع بنات أفكاري كلما أردنا أن نصنع عرسا ملونا من الفرح والحرية، فلا هي تتركني لأكبر وأعود إلى بيتي ولا أنا أغادرها لفرط سعادتي بها. تلك الحالة من الفرح أفتقدها عندما أجدني أكبر فجأة في جوف قصة سوريالية وأنا أخطّ نفسي وعالمي عبر سطورها وهي تحاكي ألم الإنسان وغربته. أو عندما أغرق في حقل مسرحية شائكة للكبار، إذ كانت «الشظية» أول نص مسرحي للكبار يحمل روحي المتشظية في جراح الوطن، والتي حملها الريح إلى العراق لتفوز بجائزة النص المسرحي المقدمة من وزارة الثقافة في بغداد 2001، ولا تسعني المفاجأة إذ لم أكن آمل آن تصل مسرحيتي فعلا حين بعثت بها مع أحد السائقين بين عمان وبغداد.  وتزداد دهشتي عندما أرى بالصدفة المحضة شهادة تقدير لأحد المخرجين وقد فاز بالشظية كأفضل عمل متكامل في أبو ظبي، ثم تكتمل دهشتي المخضبة بالفرح والحزن عندما أسمع من أحد الفنانين الأردنيين أنه شاهدها تعرض في القاهرة أم الفنون. 
لا أخفي سروري بشظيتي التي استطاعت أن تقتحم أكثر من مكان وتقطف أكثر من نجاح...
أخذني الاعتداد بتلك الشظية فحملتها بكل ثقة إلى دائرة المسارح في عمان لتعرض في مهرجان المسرح الأردني، وسقطت في ألم الحيرة والسؤال عندما لم أجدها تركض على خشبة المسرح الأردني.. حضنها الطبيعي... 
منذ ذلك الوقت، تحولت نصوصي إلى طيور مهاجرة تجوب البلاد، فها هي مسرحية لعبة في الهواء القلق «للكبار» تفوز بجائزة ناجي نعمان الدولية في التأليف المسرحي، وها هي مسرحية المكنسة السحرية «للأطفال» تجوب مدن الشام العزيز... وها غيرها من المسرحيات ترفرف هنا وهناك.. وها أنا أحلم أن ينشأ شكل مؤسسي يأخذ بيد النص المسرحي  بحياد تام (منحازا إلى الإبداع) ضمن ضوابطه العرفية والتجديدية.

عندما ولجت إلى عالم مسرح الطفل بقوة الحب، حاولت أن أستدرج الطفل الذي لا زال يسكنني، ليكتب هو بملء حريته ويملي عليّ ما يريده، متمردا على القوالب الجاهزة التي كثيرا ما تأتيه كوجبات معلبة سئم تناولها ، وعمدت الى أنسنة كل ما يحيط بالطفل من مفردات مادية أو معنوية، وذهبت الى تشخيص المفاهيم بخيرها وشرها ، كالحب والكره والفرح والفقر....، واستنطاق هذه المفاهيم ، لتصبح  شخصيات تتحرك على خشبة المسرح وتتصارع لتنتصر لمضامينها ومعانيها دون أي وعظ أو إسقاط خارجي.

وإذا كنت لا أريد الخوض هنا في تاريخ نشأة مسرح الطفل الشائك،ذلك  لأنني أعتقد ببساطة أن الطفل هو أول من مارس فعل المسرح مؤلفا ومخرجا وممثلاً، منذ زمن متناهٍ في الأزل والقدم، فهو أول من أسس المسرح الفطري منذ لعبة العروس والعروسة والطبيب والمريض والأستاذ والتلميذ وغيرها من الألعاب التي يتداولها معظم الأطفال منذ سن مبكر والتي تشبه عملا مسرحيا مكتمل الأدوات.
وانطلاقا من دور المسرح في استنهاض الراكد من قدرات الطفل المعرفية والنفسية، أجد أنّ ثمّة ضرورة لإطلاق العنان للطفل في ممارسة هذا النوع من اللعب الممسرح، ابتداء من السنّ المبكرة وعدم انتقاده ودفعه إلى الخجل من أول دور يقوم به في التقليد والمحاكاة للواقع. وذلك لما في فكرة التقمص للشخصيات كشخصية الأب والأم أو المعلم من دور في التعبير عن كوامن نفس الطفل والكشف عن طاقاته ومواهبه، كما أنها قد تكشف أحيانا عن مهنة المستقبل والتي كثيرا ما تتحقق فعلا...
وإذا تحدثنا عن مسرح الطفل المؤطر الذي يقدمه الكبار أو الصغار لأغراض شتى أبرزها المتعة والتعليم وغرس مفاهيم الفضيلة، أجد أن العمل المسرحي لا ينجح ويقوم بدوره التربوي أو التعليمي المنشود إلا إذا لامس روح الطفل الداخلية وسبر أعماقها وعرف كيف يجعل الطفل جزءا من الحدث المسرحي سواء كان ممثلا أو متفرجا.. ويتأتى ذلك عبر البساطة الشديدة في الطرح موضوعا وفكرة وأسلوبا. ذلك لأني أؤمن أن التجربة العملية هي الأقدر على رصد الحقائق والنتائج والهنات منذ النصّ ،حتى العرض. 
حبي واندفاعي نحو المسرح والجوائز المتعددة التي أغرتني وعززت انتمائي لقدسية المسرح والمشتغلين عليه، أنسياني الكثير من العثرات والهنات التي تطوق أيّ عمل إبداعي، فإلى جانب العقبات المادية التي تضع العمل المسرحي بين أيد تجارية في الكثير من الأحيان، أقول إنّني كثيرا ما بكيت حين رأيت أفكاري وشخصياتي تعدم وتشوه على خشبة لا تصلح سوى لبسطة باعة متجولين، حين تتحول الجدوى الفنية والمعرفية إلى جدوى اقتصادية بحتة عند منتج ارتأى أن تنفيذ الأعمال المسرحية بدعم من مؤسسة كذا أو كذا قد يدرّ ربحاً أكبر من ربحه في بيع الأحذية أو الملابس الأوروبية المستعملة وأكثر حتى من مطعم فلافل غير مضمون الجدوى والمردود، هذا طبعا مرتبط بمستوى المنتج المدعوم، ومستوى الجهة الداعمة، وهذا أيضا إبداع من نوع آخر كثيرا ما يجهله الكاتب والمخرج والممثل الجاد أو «إلى قابضها جد» والذي ما انفك دوما يشكو الفقر ويدفع للمسرح من بقايا جيبه المثقوب. 
أن ثقافة المسرح بأشكاله ضرورة من ضرورات تطوير طاقات الطفل الأدائية إضافة لكونه وسيلة من وسائل التعلم مع احتفاظي بوجهة نظر فيها بعض المغايرة في كون الطفل دائما يهرب من أسلوب الأستذة الذي يلاحقه في البيت والمدرسة، لا ليجده أمامه في المسرح، فإن كان المسرح مدرسة فحبذا أن نبتكر وسائل تجعل الطفل يتعلم دون قصد، أي أن تسرب له المعلومة عبر فن رفيع لا يشعره بأنه لا زال يقبع في ثياب التلميذ صامتا أمام درس ملون جديد. 
د. نهلة الجمزاوي